إمبراطورية البلاغة
4 ـ البلاغة الجديدة
تركنا بول فيرلين في الحلقة الماضية، وقد غرس أصابعه بعصبية بين أوداج البلاغة وحنجرتها، جحظت عيناه حين انصرفنا … ثم قيل، بعد ذلك: لقد مات بول فرلين وانبعثت البلاغة من رمادها، والذين دفنوها عادوا يبحثون عنها في مسكنها القديم. ويستدرجونها للخروج إلى الشارع والتبرج في أرصفة المدن الحديثة، والتعري تحت أضوائها الكاشفة.
ها هو رولان بارث زعيم المجددين نفسه يبحث للبلاغة القديمة عن فستان حديث، وعن شغل في شركات الإشهار (بلاغة الصورة). لقد كتب سنة 1963 قائلا: "ينبغي إعادة التفكير في البلاغة الكلاسيكية بمفاهيم بنيوية (وذلك هو موضوع عمل قيد الإنجاز)، وسيكون، حينئذ، من الممكن وضع بلاغة عامة أو لسانية لدوال التضمين، صالحة للصوت المنطوق، والصورة والإيماء.." (بارت بلاغة الصورة. نقله الشرقاوي في البلاغة القديمة ص5).
ومما له دلالة في ه>ا للصدد أن يصدر جان كوهن، سنتين فقط بعد هذا النداء، كتابه المشهور في مجال قراءة البلاغة القديمة في ضوء اللسانيات البنيوية الحديثة، أقصد: بنية اللغة الشعرية. (ترجمه إلى العربية محمد الولي ومحمد العمري.. وصدر بالدار البيضاء سنة 1986).
وسنوات قليلة بعد ذلك يكتب جيرار جينيت مقالة يتحدث فيها عن الاختزال الذي تعرضت له البلاغة القديمة، داعيا إلى إعادة النظر في موقف المحدثين من بلاغة عندها الكثير مما تساهم به في إطار الدراسة المستوعبة لابعاد الخطاب الشعرية والإقناعية..الخ.
في هذا الجو صدرت كتب كثيرة تحمل العنوان القديم متضمنة الجديد. من ذلك: البلاغة العامة، وبلاغة الشعر، لجماعة مي، وإمبراطورية البلاغة (قبل ذلك) ل بيرلمان، إلى غير ذلك من العناوين.
لقد استعادت كلمة بلاغة سحرها. وربما بدت كموضة يرمز بها المعروف بالحداثة إلى أنه عريق أيضا. قد يبدو الأمر لذلك، لأول وهلة، غير أن الباحثين يتحدثون عن أسباب موضوعية لعودة البلاغة، نعود إليها بعد حين.
بعد ذا المد لا نستغرب إذا وجدنا باحثا متمكنا مثل هنريش بليت يُدجُ أسماء كبار السميائيين والشعريين والإقناعيين "أو التداوليين" المحدثين في زمرة البلاغيين: يقول:
"ثم تغيرت هذه الوضعية (أي الوضعية التي آلت إليها البلاغة) بشكل يكاد يكون مفاجئا في الستينات من هذا القرن، وكان باحثون ألمان قد حاولوا، من قبل إعادة الاعتبار إلى البلاغة: دوكهورن (1944-1949) بتاسيسه لعلم جمال بلاغي قائم على التأثير، وكورتيس (1956) بتبريره للتحليل التاريخي للمعاني المشتركة، ولوسبيرغ (1960-1967) باستقصائه المنهجي الواسع لمواد البلاغة الكلاسيكية ونلاحظ الآن كثرة مفرطة من الأعمال المرصودة للبلاغة تنظيرا وتأريخا في أوروبا والولايات المتحدة في وقت واحد.. إن رواد هذه البلاغة الجديدة في فرنسا هم رولان بارت، وجيرار جينيت وكونتر وكبدي فارغا. ومجموعة مي بلييج، وبيرلمان وتودوروف. لقد استطاع هؤلاء الباحثون وباحثون آخرون كثيرون في بلاد أخرى أن يجعلوا من البلاغة مبحثا علميا عصريا" (البلاغة والأسلوبية.ت.محمد العمري ص15-16).
إن من يطلع على العمل الأكاديمي الصبور، العمل التصنيفي الذي قام به كورتيوس ولوسبيرغ وأمثالهما سيدرك العبء الذي حمله هذا الجيل من الباحثين لتسهيل مهمة الجيل اللاحق من القراء المؤولين من أمثال جان كوهن وهنريش بليت. ونحن ما زلنا مع الأسف نفتقد حتى هذه الخطوة التصنيفية.
لم يعد رجوع البلاغة موضع جدال بين الدارسين سواء أولئك الذين نادوا بعودتها أو الذين لم يفعلوا ذلك، فالكل منخرط في البحث في أسباب هذا الغزو الجديد...فمنهم من يربط ازدهارها بازدهار البحث في اللغة، باعتبارها أداة للتواصل والمعرفة مستشهدا بالتاريخ القديم والحديث، كما يقول فاسيلي في كتابه: البلاغة والبلاغة الجديدة (انظر مقدمة البلاغة القديمة. بارث. الشرقاوي). ومنهم من ينظر من الزاوية المقابلة فيضيف إلى ذلك "الوعي اللغوي للأدب" كما يقول غريماس وكورتيس في معجميهما (نفسه).
وقد أجمل هنريش بليت هذه الأسباب بقوله: "إن سبب هذه النهضة البلاغية يرجع في مجال التنظير إلى الأهمية المتزايدة للسانيات التداولية، ونظريات التواصل، والسيميائيات والنقد الأيديولوجي، وكذا الشعرية اللسانية في مجال وصف الخصائص الإقناعية للنصوص وتقويمها" (البلاغة والأسلوبية ص15).
ولقد خرجت البلاغة، بهذا الانفتاح الجديد على مجالات الخطاب، من حدود البعد الجمالي الذي كانت محصورة فيه. نازعة لأن تصبح علما واسعا للمجتمع (نفسه).
فانتقلت خلال عملية التجديد هده من المعيارية إلى الوصفية، فلم يعد الهدف الأول للبلاغة هو إنتاج النصوص بل اتجهت إلى التحليل.
يرى هنريش بليت، من جهة، أن البلاغة تكتسب مشروعيتها في تناول الخطاب من اعتبارين:
أولهما تاريخي: فقد أنشئت النصوص المختلفة (من خطابات ومواعظ. ورسائل وأشعار..الخ) عبر التاريخ، حسب قواعدها، "فإذا ما استعملنا، بعد ذلك، المقولات البلاغية لتأويل تلك النصوص فإننا سنساهم في كشف تركيبها الشكلي القصدي" (البلاغة والأسلوبية 16).
وثانيهما: ذو طبيعة جوهرية؛ فقد أظهرت البلاغة مرونة وقابلية للتكيف مع النصوص الجديدة عبر قرون، "ونتيجة لذلك ظهرت أنساق بلاغية فرعية. مثل بلاغة أدب الترسل والمواعظ الشعرية البلاغية. لقد أوحت هذه الحالة بإمكانية تطبيق البلاغة على جميع النصوص الممكنة" (نفسه).
انطلاقا من هذه القناعة انخرط البلاغيون الغربيون في تجارب متفاوتة من أجل استثمار البلاغة وإعادة كتابتها. يمكن ـ في هده المناسبة ـ رصد ثلاثة اتجاهات (حسبما يسمح به اطلاعنا وهو محدود).
1 ـ توسيع المفاهيم البلاغية القديمة ودفعها تصنيفا، وتفسيرا، إلى مستوى الأصول التي يتولد عنها غيرها؛ إما، 1) ضمن نسق جديد، كما فعل ياكبسون مع الاستعارة والمجاز المرسل وصور التكرار والتوازي ضمن ما أسماه: نحو الشعر، وقد اتخذ اجتهاده في تأصيل البحث في الاستعارة والمجاز المرسل أساس لكثير من البحوث في البنية الدلالية للشعر. وإما 2) ضمن النسق البلاغي القديم نفسه، كما انتهى إليه مع المصنفين المتأخرين مثل لوسبيرغ، وفونتاني في: صور الخطاب، ويحضرنا في هذا الاتجاه عمل جون مولينو وجويل طامين في كتابهما المشترك: مدخل إلى التحليل اللساني للشعر وقد أعلنا، منذ البداية، أن استفادتهما من البحث اللساني تنحصر في روح البحث، لا في شكله وصياغته. لأن البلاغة القديمة، في نظرهما، ما زالت تحتفظ بالكلمة في الموضوع. ولذلك اتجه عملهما إلى توسيع المفاهيم الكبيرة، ومحاولة تفسير فاعليتها إلى أقصى مدى ممكن. وهذا ما فعلاه مثلا مع التكرار، والتوازنات الصوتية والمجاز..الخ ويعتبر عملهما مرحلة وسطى بين التصنيف التقليدي لصور البلاغة وبين صياغة البلاغة ضمن رؤية جديدة، كما فعل من نذكر بعدهما.
2 ـ محاولة تفسير طبيعة الصور البلاغية وكيفية اشتغالها بإدخالها في نسق عام واستخراج البنية المشتركة بينها. وهذا هو العمل الذي أنجزه جان كوهن في كتابه: بنية اللغة الشعرية، حيث حاول استخراج مظاهر الانزياح في الصور البلاغية. ينطلق جان كوهن من التمييز بيم مرحلتين أساسيتين في قيام أي علم: مرحلة التصنيف ومرحلة التفسير، وقد أنجزت البلاغة والقديمة الخطوة الأولى، وبقي على البلاغة الجديدة (أو الشعرية حسب تسميته لها) أن تنجز الخطوة الثانية. ونود هنا أن نُسمع القارئ صوت هذا الباحث المتميز في المسألة الحيوية التي تجعل حلقات النشاط الإنساني في مساءلة الخطاب موصولة ومتكاملة: يقول:
"الواقع أن البلاغة القديمة قد بنيت بمنظور تصنيفي خالص، لقد وقفت محاولتها عند وضع المعالم، وتسمية الأصناف المختلفة من الانزياحات وترتيبها. كانت تلك المهمة مملة. ولكنها ضرورية، فمن هنا ابتدأت العلوم جميعا. لكن البلاغة وقفت عند هذه الخطوة. فلم تبحث عن البنية المشتركة بين الصور المختلفة، وهذا بالتحديد هو هدف تحليلنا. فهل توجد في القافية والاستعارة والتقديم والتأخير صفة مشتركة من شأنها أن تأخذ فعاليتها بعين الاعتبار؟ّ" (بنية اللغة الشعرية ص48). "إن الكتاب كله (كما جاء في مقدمة المترجمين) يجيب عن هذا السؤال من فقرة لأخرى، وفي كل لحظة يؤكد المؤلف أن الصور البلاغية تلتقي جميعا، في اللحظة الأولى، في خرق قانون اللغة". وقد قدم المترجمان نماذج لذلك بما تعلم بالوقوف على الكتاب (ص7).
3 ـ إدراج الصور البلاغية ضمن خطاطة نصية عامة كما فعل هنريش بليت سعيا منه لصياغة نموذج صالح لتحليل كل النصوص الممكنة أدبية وغير أدبية. يقول في مقدمة عمله:
"إن تصورا للبلاغة من هذا القبيل (أي بلاغة تحليلية يتضمن أمرين: أولهما ضرورة وجود علم عام للنص يكون صالحا لا لدراسة النصوص الأدبية وحدها، بل لدراسة غيرها من النصوص على اختلافها، وثانيهما، الفكرة المتضمنة في أن كل نص هو بشكل ما "بلاغة" أي أنه يمثل وظيفة تأثيرية، ولهذا الاعتبار فالبلاغة تمثل منتهى للفهم النصي مرجعه التأثير" (ص18).
وبعد استعراضه للبعد التداولي للبلاغة القديمة يستعرض الأسلوبيات الحديثة من وجهة نظر المقام التواصلي (المرسل (التعبير)، الرسالة، المتلقي (الأثير))، ثم يقترح بلاغة جديدة تجمع بين عنصرين طالما اعتبرا متنافرين: عنصر الانزياح والعنصر التداولي (المقامي):
"بعد الذي تقدم نقترح نموذجا قائما على أسلوبية الانزياح، ولكنه يشتغل في الوقت نفسه على المستوى التداولي، يعيد تشغيل نسق الصور البلاغية القديمة، هذا النسق الذي يستند إلى مبدأين هما: الانزياح والأثر الانفعالي" (ص41).
يعتبر هنريش بليت عمله تطويرا للنتائج التي توصل إليها منظرون آخرون يذكر منهم ليش وتدوروف ومجموعة لييج (مي). ويقوم تطويره لها على تحسين الأداء، وتصحيح الأخطاء، إذا اقتضى الحال. فقد اعترف هؤلاء قبله "بدقة فن العبارة القديم وأسلوبية الانزياح، وحاولوا إدماجهما اعتمادا على اللسانيات البنيوية" (نفسه 41). غير أن جهودهم برغم تماسكها لا تحقق المطلوب، لأنها لا تعير اهتماما كبيرا للجانب التداولي، بل تكاد تتخلى عنه. ولذلك يقترح الخطة التالية في تصنيف صور الانزياح.
1 ـ انزياح في التركيب (العلاقة بين الدلائل).
2 ـ انزياح في التداول (العلاقة بين الدلائل والمرسل والمتلقي).
3 ـ الانزياح في الدلالة (العلاقة بين الدلائل والواقع).
أما بعد، فليعد القارئ إلى نهاية الحلقة الثانية وليقارن بين نهاية ونهاية ، ليعلم الفرق بين حال وحال.
هامش
ثقافة اليوم: نشر في الأسبوع ما قبل الماضي المقال الأول من البلاغة وأسئلة التاريخ.. وسينشر المقال الثاني في الأسبوع ما بعد الآتي.. وننشر هذا المقال تتمة للمواضيع الثلاثة السابقة (إمبراطورية البلاغة),, ونعتذر للجميع عن الخطأ غير المقصود.
4 ـ البلاغة الجديدة
تركنا بول فيرلين في الحلقة الماضية، وقد غرس أصابعه بعصبية بين أوداج البلاغة وحنجرتها، جحظت عيناه حين انصرفنا … ثم قيل، بعد ذلك: لقد مات بول فرلين وانبعثت البلاغة من رمادها، والذين دفنوها عادوا يبحثون عنها في مسكنها القديم. ويستدرجونها للخروج إلى الشارع والتبرج في أرصفة المدن الحديثة، والتعري تحت أضوائها الكاشفة.
ها هو رولان بارث زعيم المجددين نفسه يبحث للبلاغة القديمة عن فستان حديث، وعن شغل في شركات الإشهار (بلاغة الصورة). لقد كتب سنة 1963 قائلا: "ينبغي إعادة التفكير في البلاغة الكلاسيكية بمفاهيم بنيوية (وذلك هو موضوع عمل قيد الإنجاز)، وسيكون، حينئذ، من الممكن وضع بلاغة عامة أو لسانية لدوال التضمين، صالحة للصوت المنطوق، والصورة والإيماء.." (بارت بلاغة الصورة. نقله الشرقاوي في البلاغة القديمة ص5).
ومما له دلالة في ه>ا للصدد أن يصدر جان كوهن، سنتين فقط بعد هذا النداء، كتابه المشهور في مجال قراءة البلاغة القديمة في ضوء اللسانيات البنيوية الحديثة، أقصد: بنية اللغة الشعرية. (ترجمه إلى العربية محمد الولي ومحمد العمري.. وصدر بالدار البيضاء سنة 1986).
وسنوات قليلة بعد ذلك يكتب جيرار جينيت مقالة يتحدث فيها عن الاختزال الذي تعرضت له البلاغة القديمة، داعيا إلى إعادة النظر في موقف المحدثين من بلاغة عندها الكثير مما تساهم به في إطار الدراسة المستوعبة لابعاد الخطاب الشعرية والإقناعية..الخ.
في هذا الجو صدرت كتب كثيرة تحمل العنوان القديم متضمنة الجديد. من ذلك: البلاغة العامة، وبلاغة الشعر، لجماعة مي، وإمبراطورية البلاغة (قبل ذلك) ل بيرلمان، إلى غير ذلك من العناوين.
لقد استعادت كلمة بلاغة سحرها. وربما بدت كموضة يرمز بها المعروف بالحداثة إلى أنه عريق أيضا. قد يبدو الأمر لذلك، لأول وهلة، غير أن الباحثين يتحدثون عن أسباب موضوعية لعودة البلاغة، نعود إليها بعد حين.
بعد ذا المد لا نستغرب إذا وجدنا باحثا متمكنا مثل هنريش بليت يُدجُ أسماء كبار السميائيين والشعريين والإقناعيين "أو التداوليين" المحدثين في زمرة البلاغيين: يقول:
"ثم تغيرت هذه الوضعية (أي الوضعية التي آلت إليها البلاغة) بشكل يكاد يكون مفاجئا في الستينات من هذا القرن، وكان باحثون ألمان قد حاولوا، من قبل إعادة الاعتبار إلى البلاغة: دوكهورن (1944-1949) بتاسيسه لعلم جمال بلاغي قائم على التأثير، وكورتيس (1956) بتبريره للتحليل التاريخي للمعاني المشتركة، ولوسبيرغ (1960-1967) باستقصائه المنهجي الواسع لمواد البلاغة الكلاسيكية ونلاحظ الآن كثرة مفرطة من الأعمال المرصودة للبلاغة تنظيرا وتأريخا في أوروبا والولايات المتحدة في وقت واحد.. إن رواد هذه البلاغة الجديدة في فرنسا هم رولان بارت، وجيرار جينيت وكونتر وكبدي فارغا. ومجموعة مي بلييج، وبيرلمان وتودوروف. لقد استطاع هؤلاء الباحثون وباحثون آخرون كثيرون في بلاد أخرى أن يجعلوا من البلاغة مبحثا علميا عصريا" (البلاغة والأسلوبية.ت.محمد العمري ص15-16).
إن من يطلع على العمل الأكاديمي الصبور، العمل التصنيفي الذي قام به كورتيوس ولوسبيرغ وأمثالهما سيدرك العبء الذي حمله هذا الجيل من الباحثين لتسهيل مهمة الجيل اللاحق من القراء المؤولين من أمثال جان كوهن وهنريش بليت. ونحن ما زلنا مع الأسف نفتقد حتى هذه الخطوة التصنيفية.
لم يعد رجوع البلاغة موضع جدال بين الدارسين سواء أولئك الذين نادوا بعودتها أو الذين لم يفعلوا ذلك، فالكل منخرط في البحث في أسباب هذا الغزو الجديد...فمنهم من يربط ازدهارها بازدهار البحث في اللغة، باعتبارها أداة للتواصل والمعرفة مستشهدا بالتاريخ القديم والحديث، كما يقول فاسيلي في كتابه: البلاغة والبلاغة الجديدة (انظر مقدمة البلاغة القديمة. بارث. الشرقاوي). ومنهم من ينظر من الزاوية المقابلة فيضيف إلى ذلك "الوعي اللغوي للأدب" كما يقول غريماس وكورتيس في معجميهما (نفسه).
وقد أجمل هنريش بليت هذه الأسباب بقوله: "إن سبب هذه النهضة البلاغية يرجع في مجال التنظير إلى الأهمية المتزايدة للسانيات التداولية، ونظريات التواصل، والسيميائيات والنقد الأيديولوجي، وكذا الشعرية اللسانية في مجال وصف الخصائص الإقناعية للنصوص وتقويمها" (البلاغة والأسلوبية ص15).
ولقد خرجت البلاغة، بهذا الانفتاح الجديد على مجالات الخطاب، من حدود البعد الجمالي الذي كانت محصورة فيه. نازعة لأن تصبح علما واسعا للمجتمع (نفسه).
فانتقلت خلال عملية التجديد هده من المعيارية إلى الوصفية، فلم يعد الهدف الأول للبلاغة هو إنتاج النصوص بل اتجهت إلى التحليل.
يرى هنريش بليت، من جهة، أن البلاغة تكتسب مشروعيتها في تناول الخطاب من اعتبارين:
أولهما تاريخي: فقد أنشئت النصوص المختلفة (من خطابات ومواعظ. ورسائل وأشعار..الخ) عبر التاريخ، حسب قواعدها، "فإذا ما استعملنا، بعد ذلك، المقولات البلاغية لتأويل تلك النصوص فإننا سنساهم في كشف تركيبها الشكلي القصدي" (البلاغة والأسلوبية 16).
وثانيهما: ذو طبيعة جوهرية؛ فقد أظهرت البلاغة مرونة وقابلية للتكيف مع النصوص الجديدة عبر قرون، "ونتيجة لذلك ظهرت أنساق بلاغية فرعية. مثل بلاغة أدب الترسل والمواعظ الشعرية البلاغية. لقد أوحت هذه الحالة بإمكانية تطبيق البلاغة على جميع النصوص الممكنة" (نفسه).
انطلاقا من هذه القناعة انخرط البلاغيون الغربيون في تجارب متفاوتة من أجل استثمار البلاغة وإعادة كتابتها. يمكن ـ في هده المناسبة ـ رصد ثلاثة اتجاهات (حسبما يسمح به اطلاعنا وهو محدود).
1 ـ توسيع المفاهيم البلاغية القديمة ودفعها تصنيفا، وتفسيرا، إلى مستوى الأصول التي يتولد عنها غيرها؛ إما، 1) ضمن نسق جديد، كما فعل ياكبسون مع الاستعارة والمجاز المرسل وصور التكرار والتوازي ضمن ما أسماه: نحو الشعر، وقد اتخذ اجتهاده في تأصيل البحث في الاستعارة والمجاز المرسل أساس لكثير من البحوث في البنية الدلالية للشعر. وإما 2) ضمن النسق البلاغي القديم نفسه، كما انتهى إليه مع المصنفين المتأخرين مثل لوسبيرغ، وفونتاني في: صور الخطاب، ويحضرنا في هذا الاتجاه عمل جون مولينو وجويل طامين في كتابهما المشترك: مدخل إلى التحليل اللساني للشعر وقد أعلنا، منذ البداية، أن استفادتهما من البحث اللساني تنحصر في روح البحث، لا في شكله وصياغته. لأن البلاغة القديمة، في نظرهما، ما زالت تحتفظ بالكلمة في الموضوع. ولذلك اتجه عملهما إلى توسيع المفاهيم الكبيرة، ومحاولة تفسير فاعليتها إلى أقصى مدى ممكن. وهذا ما فعلاه مثلا مع التكرار، والتوازنات الصوتية والمجاز..الخ ويعتبر عملهما مرحلة وسطى بين التصنيف التقليدي لصور البلاغة وبين صياغة البلاغة ضمن رؤية جديدة، كما فعل من نذكر بعدهما.
2 ـ محاولة تفسير طبيعة الصور البلاغية وكيفية اشتغالها بإدخالها في نسق عام واستخراج البنية المشتركة بينها. وهذا هو العمل الذي أنجزه جان كوهن في كتابه: بنية اللغة الشعرية، حيث حاول استخراج مظاهر الانزياح في الصور البلاغية. ينطلق جان كوهن من التمييز بيم مرحلتين أساسيتين في قيام أي علم: مرحلة التصنيف ومرحلة التفسير، وقد أنجزت البلاغة والقديمة الخطوة الأولى، وبقي على البلاغة الجديدة (أو الشعرية حسب تسميته لها) أن تنجز الخطوة الثانية. ونود هنا أن نُسمع القارئ صوت هذا الباحث المتميز في المسألة الحيوية التي تجعل حلقات النشاط الإنساني في مساءلة الخطاب موصولة ومتكاملة: يقول:
"الواقع أن البلاغة القديمة قد بنيت بمنظور تصنيفي خالص، لقد وقفت محاولتها عند وضع المعالم، وتسمية الأصناف المختلفة من الانزياحات وترتيبها. كانت تلك المهمة مملة. ولكنها ضرورية، فمن هنا ابتدأت العلوم جميعا. لكن البلاغة وقفت عند هذه الخطوة. فلم تبحث عن البنية المشتركة بين الصور المختلفة، وهذا بالتحديد هو هدف تحليلنا. فهل توجد في القافية والاستعارة والتقديم والتأخير صفة مشتركة من شأنها أن تأخذ فعاليتها بعين الاعتبار؟ّ" (بنية اللغة الشعرية ص48). "إن الكتاب كله (كما جاء في مقدمة المترجمين) يجيب عن هذا السؤال من فقرة لأخرى، وفي كل لحظة يؤكد المؤلف أن الصور البلاغية تلتقي جميعا، في اللحظة الأولى، في خرق قانون اللغة". وقد قدم المترجمان نماذج لذلك بما تعلم بالوقوف على الكتاب (ص7).
3 ـ إدراج الصور البلاغية ضمن خطاطة نصية عامة كما فعل هنريش بليت سعيا منه لصياغة نموذج صالح لتحليل كل النصوص الممكنة أدبية وغير أدبية. يقول في مقدمة عمله:
"إن تصورا للبلاغة من هذا القبيل (أي بلاغة تحليلية يتضمن أمرين: أولهما ضرورة وجود علم عام للنص يكون صالحا لا لدراسة النصوص الأدبية وحدها، بل لدراسة غيرها من النصوص على اختلافها، وثانيهما، الفكرة المتضمنة في أن كل نص هو بشكل ما "بلاغة" أي أنه يمثل وظيفة تأثيرية، ولهذا الاعتبار فالبلاغة تمثل منتهى للفهم النصي مرجعه التأثير" (ص18).
وبعد استعراضه للبعد التداولي للبلاغة القديمة يستعرض الأسلوبيات الحديثة من وجهة نظر المقام التواصلي (المرسل (التعبير)، الرسالة، المتلقي (الأثير))، ثم يقترح بلاغة جديدة تجمع بين عنصرين طالما اعتبرا متنافرين: عنصر الانزياح والعنصر التداولي (المقامي):
"بعد الذي تقدم نقترح نموذجا قائما على أسلوبية الانزياح، ولكنه يشتغل في الوقت نفسه على المستوى التداولي، يعيد تشغيل نسق الصور البلاغية القديمة، هذا النسق الذي يستند إلى مبدأين هما: الانزياح والأثر الانفعالي" (ص41).
يعتبر هنريش بليت عمله تطويرا للنتائج التي توصل إليها منظرون آخرون يذكر منهم ليش وتدوروف ومجموعة لييج (مي). ويقوم تطويره لها على تحسين الأداء، وتصحيح الأخطاء، إذا اقتضى الحال. فقد اعترف هؤلاء قبله "بدقة فن العبارة القديم وأسلوبية الانزياح، وحاولوا إدماجهما اعتمادا على اللسانيات البنيوية" (نفسه 41). غير أن جهودهم برغم تماسكها لا تحقق المطلوب، لأنها لا تعير اهتماما كبيرا للجانب التداولي، بل تكاد تتخلى عنه. ولذلك يقترح الخطة التالية في تصنيف صور الانزياح.
1 ـ انزياح في التركيب (العلاقة بين الدلائل).
2 ـ انزياح في التداول (العلاقة بين الدلائل والمرسل والمتلقي).
3 ـ الانزياح في الدلالة (العلاقة بين الدلائل والواقع).
أما بعد، فليعد القارئ إلى نهاية الحلقة الثانية وليقارن بين نهاية ونهاية ، ليعلم الفرق بين حال وحال.
هامش
ثقافة اليوم: نشر في الأسبوع ما قبل الماضي المقال الأول من البلاغة وأسئلة التاريخ.. وسينشر المقال الثاني في الأسبوع ما بعد الآتي.. وننشر هذا المقال تتمة للمواضيع الثلاثة السابقة (إمبراطورية البلاغة),, ونعتذر للجميع عن الخطأ غير المقصود.